ومن القرن الثاني للهجرة ابتدأت عناية بناة مدينتي القيروان وتونس بحمل العلم، فقصدوا موارده بالمشرق كمدينة الرسول، والكوفة والبصرة ثم دمشق وبغداد والفسطاط وملئوا من العرفان وطابهم، وعادوا بعد حين إلى وطن ولادتهم لبث ما لديهم بين أبناء جلدتهم.
ونبغ من الرعيل الأول أفذاذ مبرزون وصلوا بالعلم التشريعي إلى اقصى درجات البحث والاستنباط والتخريج، مثل (علي ابن زياد ) تلميذ مالك ودفين تونس و (أسد ابن الفرات) صاحب مالك وأبي يوسف، و(سحنون ابن سعيد ) محدث المدرسة المالكية الافريقية، وسواهم كثير.
وما كان اشتغال أفراد هذه الحلبة بادئ بدء بالحديث والفقه (الحقوق) إلا لأمسّ حاجة العالم الاسلامي حينذاك لتنظيم هيئته الاجتماعية، وتدبير سياسته الشرعية على أصول نظام الدين.
ولما تمهدت وسائل التشريع وأبحاثه، اتجهت الطبقة التالية إلى العلوم العقلية والرياضية، ويرجع في ظهور هذه الحركة الجديدة إلى رجلين يجب ذكر اسميهما بكل تقدير واحترام، أعني : (اسحاق ابن عمران) الذي أشاع الفلسفة في القيروان وفسر غامضها، كما نشر علم الطب وما يتفرع عنه من فنون الحكمة والصيدلة.
والثاني هو الأديب الكبير، والكاتب البليغ : أبو اليسر ابراهيم الشيباني) حامل لواء الرواية للأدب والترسل العربي.
وقد ساعد الأمراء الأغالبة على ظهور هذه الحركة العقلية المباركة وعلى نشرها بتأسيس أول جامعة للعلم والترجمة وبث المبادئ الرياضية في الأوساط المغربية، وهي (بيت الحكمة القيرواني) الذي ترأسه أبو اليسر الشيباني المقدم (حدود سنة 265 هــ)
وقد جلب اليها الأغالبة نفائس الكتب من أطراف العالم العربي : من العراق والشام ، ومصر، كما ألحقوا به ثلة من القسيسين المسيحيين، استقدموهم من صقلية، التابعة يومئذ لملكهم، فانكبت تلك النخبة على ترجمة مؤلفات يونانية ولاطينية في شتى الموضوعات من فلسفة، وتاريخ وجغرافية، وطب ونبات والمؤكد أن ضمنتها قسما من مصنف (بلنيوس الكبير – Pline l'Ancien ) في معنى التاريخ الطبيعي المتعلق بالحيوان والنبات كما أشار إليه الوزّاني المراكشي في تعريفه بأقطار المغرب، وكانت هذه الترجمات، تتم بمعونة رجال افريقيين متضلعين في العربية.
انتفعت افريقية التونسية أيما انتفاع بهذا الوعي، فظهر فيها فلاسفة مجيدون منهم أبو سعيد الحداد، وأطباء ماهرون من أشهرهم أفراد بيت (الجزار) وهم أربعة تناولوا رياسة الصناعة، ومنهم (زياد بن خلفون) و (أعين بن أعين) وسواهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق