الخلافة العباسية من رحم تونسيّة

من الأعيان العرب الوافدين على القيروان : (منصور بن عبد الله بن يزيد الحميري) من ذرية ( ذي رعين) احد ملوك اليمن قبل الإسلام.
وفد منصور على القيروان نحو سنة 110 هــ واتخذها له وطنا، وابتنى بها دارا حسنة في الحي المنسوب إلى ( بني نافذ) غير بعيد من المسجد الجامع، وقد صاهره البشير بن خالد صاحب الشرطة بافريقية إذ تزوج أخته، فزاد ذلك مكانته في الجالية العربية.
قال ابن الابار - ناقلا عن ابن الوكيل القيرواني-: " كان منصور شريفا في قومه، معروف المكانة فيهم، مذكورا بالبلاغة والشعر وكرم الأخلاق"
وبعد حين من مقدمه،ورد عليه شاب قرشي من البصرة، يعرف أل بيته في المشرق، وهو: ( ابو جعفر عبد الله العباسي) فأكرم منصور مثواه وانزله على الرحب والسعة .
ويحمل بنا هنا أن نسوق نبذة من خبر أبي جعفر وما كان له من الصلة الوثيقة بافريقية التونسية قبل أن يلي الخلافة وبعد أن وليها، وهو : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وأمه ( سلامة) بتبشير، جارية بربرية من قبيلة نفزة التونسية، تزوجها أبوه محمد فولدت له ابا جعفر سنة خمس وتسعين للهجرة بمدينة البصرة، فنشا بها، وقرا على أعلامها

ولما كبر أبو جعفر وترعرع، اقتفى خطى أخويه الكبيرين إبراهيم المعروف بالإمام، وأبي العباس الذي اشتهر فيما بعد بالسفاح، فجرى مجراهما في دعوى استحقاق الخلافة،فأكدت الدولة الأموية العيون عليه، وأوعزت إلى العمال والأعوان أن يتتبعوه ، وان يعرفوا ما يكون منه ، وان يقبضوا عليه إذا لزم الأمر، فكان هو وأهل بيته يتخوفون ما استطاعوا، ويسرون دعوتهم بكل سبيل، ويلوذ منهم لائذون بالبقاع القاصية، مثل خراسان ببلاد فارس، وصنعاء باليمن.
وما عتم أبو جعفر أن توخّى افريقية لما بينه وبينها من رحم ، فان ابن عمه حفيد عبيد الله بن عبد الله بن العباس كان قد طرأ على القيروان وتزوج فتاة تسمى " اروى" وتكنى " ام موسى"، وهي ابنة منصور بن يزيد الحميري ، ومات نحو سنة عشرين ومائة للهجرة، فبقيت " أروى" في بيت أبيها، وتقلبت بها الأيام، حتى كان مقدم أبي جعفر و كان الغرض من مقدمه هي التماسه النجاة من طلب بني امية له.
حلّ أبو جعفر ضيفا عزيزا على منصور بن يزيد الحميري،وفي أثناء مقامه عنده، شهد من وسامة " أروى" ما بهر بصره وخلب لبّه، فخطبها إلى أبيها وتزوجها وتعلّق بها اكبر التعلق طول حياته، وقد اشترط لها أبوها في عقد زواجها ألا يتزوج أبو جعفر غيرها وألا يتخذ السراري معها، فان تسرى عليها كان طلاقها بيدها، كما جرت بذلك عادة اهل القيروان من عهد قديم، حتى سميت تلك الطريقة بالصداق القيرواني .
مكث ابو جعفر في كنف منصور بن يزيد الحميري والد زوجه ( اروى) حتى كتب الخليفة هشام بن عبد الملك الى عامله على افريقية يطلب منه القبض على ابي جعفر، فلما احس الخطر اضطر أن يستخفى في بيت ختنه بشير بن خالد، وهو قصر يقوم في وسط ضيعة خارج القيروان على طريق سوسة، وربما كان في موضع الخزازية الان.
وبعد حين أزمع ابو جعفر عودا الى المشرق، ليلتحق باخوته وال بيته، وكانت أنباء دعوتهم تتناهى إليه في القيروان، فانحدر بزوجه أروى مختفيا الى الكوفة، وظل يتردد على منازل الاشياع من الهاشمين في سر، حتى ظفرت الدعوة العباسية بمناصرة أبي مسلم الخراساني، وسقطت دولة بني امية، والت الخلافة الى عبد الله السفاح سنة 132 هـ. وكان الاخ الاكبر لابي جعفر، فلما مات أسندت إليه الخلافة سنة 136 هـ وفي بادئة امره انشأ مدينة بغداد التي سميت اول ما سميت: مدينة المنصور،وابتنى لنفسه قصرا اسماه " قصر الخلد" واسكن فيه زوجه وبنيه وذويه.
وقد وفى المنصور لزوجه" ام موسى " ما كان عاهدها عليه في عقدة الزواج، قلم يتخذ له زوجا سواها، ولم تكن له سراري معها طول حياتها، وقد ولد منها جعفر اكبر اولاده، ومات في حياة أبيه، وهو والد ( الزبيدة)التي تزوجها هارون الرشيد فيما بعد، وابن ثان هو ( محمد المهدي) الذي صارت إليه الخلافة.
ولم تزل ( أروى)- ام موسى- في المحل الأرفع من قلب زوجها ومن إجلاله وتكريمه، يرعى أولادها، ويحتفي بأهل بيتها، حتى توفيت سنة 136 هــ بعد عشر سنين من ولايته إمارة المؤمنين.
حزن المنصور على زوجه الحميرية الإفريقية حزنا أليما، إذ كان يحمد لها ما تمتاز به من جليل الخصال، ويذكر لها مشاركتها إياه في البأساء والنعماء ، ويفاخر بأنها سلالة ملوك اليمن من حمير، ذروة مجد العرب الأثيل.
ومن آثار ( اروى) التي خلدت لها ذكرا دائما وحسنة باقية على الدهر ما رواه الجاحظ نقلا عن معاصره علي بن محمد بن سليمان قال : ابي يقول: " كان المنصور اشترط ( لام موسى الحميرية) ان لا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابا اكدته واشهدت عليه بذلك ، فبقي المنصور على عهده حتى ماتت ببغداد، فاتته وفاتها وهو بحلوان... وكان المنصور اقطع ام موسى الضيعة المسماة" بالرحمة" فأوقفتها قبل موتها على المولودات الإناث دون الذكور، فهي وقف عليهن إلى هذا الوقت"- حدود سنة 250 هـ.
وقصدت أم موسى بالمولدات الأميرات من بنى العباس اللواتي لم يتزوجن او اللواتي مات عليهن بعولتهن وتركوهن أرامل، وفي غالب الوقت لم يكن للخلفاء المتولين عناية كافية بشؤونهن والقيام بنفقاتهن بالرغم من منزلتهن الرفيعة، فيجدن حينئذ في ربع ما أوقفته جدتهن المحسنة ما يصون عفافهن، ويحفظ كرامتهن، و يغنيهنّ عن الالتجاء إلى الأمراء وغيرهم، والإلحاف بالسؤال فيما يعوزهن من الضروريات.
وبهذا العمل الإنساني كانت ( أروى) من أول نساء الإسلام تفكيرا في حالة العوانس والأرامل اللاتي عضهن الدهر بنابه، وفي تخفيف وطأة النواب عليهن ونيل الأحداث منهن، رحمها الله تعالى وقد عرفت ام موسى فيما بعد بأنها " ام الخلائف"، اذ ان خلفاء بني العباس- من بعد المنصور- كانوا من ذاتها الماجدة ، نازعين الى تلك الاعراق البالغة من النبالة اقصى المبالغ.
ومن قول الشاعر الكبير سالم بن عمرو المعروف بالخاسر في مدح الخليفة المهدي .
اكرم بقوم امين الله والده وامه ام موسى بنت منصور
عني المنصور عناية خاصة بالبلاد الافريقية وباهلها منذ قبض على زمام الخلافة اذا كان يعلم من حقيقة امرها ما بصره به العيان، فقد سكنها واقام بها زمنا. وعرف خباياها، وخبر رجالها، فلا غرو اذن ان يصطفي لامارتها كبار قواد دولته، مثل محمد بن الاشعث الخزاعي والاغلب بن سالم التميمي، ويزيد بن حاتم المهلبي، واخيه روح بن حاتم، وما منهم الا من قاد الجيوش في الفتوح، وتوسد جلائل الاعمال في تلك الدولة الفتية الناهضة.
ويروى عن المنصور انه كان يسال من يفد عليه ببغداد من اهل افريقية: " كيف حال احدى القيروانيين" يعنى بذلك مدينة تونس، اذ اقام بها فترة من الزمن.


0 التعليقات:

إرسال تعليق