لقرون عديدة لم تكن تونس المدينة إلا مجرد قرية صغيرة, في محيط عاصمة الحضارة قرطاج عليسة وأميلكار وحنبعل.. ولم تتحول تونس إلي مركز ومدينة إلا بعد الفتح الإسلامي وإعلاء صرح جامع الزيتونة. ولكن ظلت القيروان عاصمة الفتح والإسلام إلي أن كان حكم الموحدين وتبوأت تونس المركز الأول وعوضت القيروان نهائيا.
وقبل نشوء الأرباض ( أي الأحياء الجديدة) مثل ربض باب سويقة شمالا وباب الجزيرة جنوبا ظلت المدينة الأصلية قرونا طويلة علي حدود النواة الأولي أي جامع الزيتونة... والي اليوم ما زالت المدينة العتيقة بمثابة قلب للذاكرة يستمد بنبضة من إيقاع مطارق ناقشي النحاس, وتستمد بريق حضورها من بريق معروضاتها... ومن عبق التاريخ فيها.
ويكفي أن يستنفر الزائر حاسة الشم فيه حتى تقوده خطاه إلى أسواق النحاس والقماش والعطور لتصل إلى جامع الزيتونة المعمور المحاذي لسوق العطارين.. فهو معلم بل صرح ديني وحضاري شامخ تلفه روائح البخور والحناء تتعانق في فضائه عصور الورد والياسمين والعنبر لتمنح قداسة المكان معاني وحدة نظافة الروح والأجساد ونشوة الإيمان وطهارة الإنسان...
فككل المدن العربية الإسلامية العتيقة يشكل الجامع محور الحياة الاقتصادية والتجارية والثقافية.. فهو المعصم وكل أسباب الحياة الأخرى أسورة حوله... ولم يشذ جامع الزيتونة عن هذه القاعدة فهو المركز الذي تحيط به الأسواق وتلتقي أمام أبوابه الرئيسية محاور المواصلات الكبرى التي تخترق المدينة, وقد أحكم الجامع الكبير مواقع الأسواق... فالأسواق النظيفة (العطارين والصاغة والشاشية) تحيط به أما الأسواق الأخرى (النحاس, والصباغين والدباغين...) فهي بعيدة عنه وخلف أبوابه.
تعددت الروايات.. والجامع واحد
لقد اختلفت الروايات حول تحديد من قام ببناء هذا الجامع الذي بات ذكر تونس مقترنا به, ومكن افريقية من سبق تأسيس أول جامعة علمية إسلامية، فالبكري في كتابه المسالك والممالك وابن خلدون في كتابه العبر وكذلك السراج صاحب الحلل السندسية في تاريخ البلاد التونسية وحسن حسني عبد الوهاب في كتابه خلاصة تاريخ تونس يرون أن باني الجامع هو عبيد الله ابن الحبحاب سنة(114هـ أو 116هـ/731م).
أما المؤرخ التونسي أحمد بن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان فإنه يري أن بانيه هو حسان بن النعمان سنة(84هـ) وللتوفيق بين الروايتين ذهب ابن أبي دينار في كتابه المؤنس في تاريخ افريقية وتونس أن مبدأ التأسيس كان علي يد حسان بن النعمان وزاد في فخامته عبدالله بن الحبحاب. وهناك من يرى أن حسان بن النعمان قد بني مسجدا صغيرا بالقرب من جامع الزيتونة ومن ثم فإن فكرة تأسيس المسجد يمكن أنها كانت لحسان لكن البناء لم يبدأ إلا في عهد عبيد الله.
واختلف المؤرخون أيضا في تحديد سنة بناء الجامع, فمنهم من قال أن ذلك كان سنة (114هـ) إلا أن البعض وبالرجوع إلى تاريخ دخول ابن الحبحاب إلى افريقية واليا عليه (116 ـ123هـ/736 ـ742م) رجح أن يكون تاريخ بناء جامع الزيتونة هو سنة (116هـ) وقد رجح ابن أبي الضياف في كتابه الإتحاف هذا الرأي الذي تؤكده جل المؤلفات المشرقية منها كتاب الكامل لابن الأثير. لكن الثابت والأكيد أن أمراء الدولة الأغلبية في القرن الثالث الهجري قد قاموا بتوسيعه وتحسين هندسته وزخرفته ومرافقه.
يقول عنه السراج في كتابه الحلل السندسية: جامع الزيتونة مسجد إذا بدا لك تبلج نوره اللامع أيقنت أنه الجامع والمفرد الجامع.. ما سرح ناظر المؤمن في أثنائه إلا امتلأ علما من بادرات ثنائه يحاكي بجماله أجمل عروس صيغ لها من معادن الطروس قائد حلق الدروس, لا عيب فيه غير أنه غدا بين أقرانه بمرتبة الصدر واختص بأن يشرح لوارديه الصدر فما ضاق صدر مهموم ودخله إلا انفرج وانفتحت له بلطيف عنايته أبواب الفرج.
من جهته ذكر العالم المصري محمد بن مصطفي الأزهري اثر زيارته إلى تونس وقد أورده ابن دينار في كتابه المؤنس: لو سئلت عن ثلاث لأجبت بلا ولو قطع رأسي، لو قيل لي هل رأيت أسر من جامع الزيتونة لقلت لا، وهل رأيت أصلح من الشيخ ابراهيم اللقاني لقلت لا، وهل رأيت أكرم من حمودة باشا المرادي لقلت لا.
رائعة حضارية ومعمارية
كان جامع الزيتونة محور عناية الخلفاء والأمراء الذين تعاقبوا علي افريقية, إلا أن الغلبة كانت للبصمات الأغلبية ولمنحى محاكاته بجامع القيروان. وقد منحته تلك البصمات عناصر يتميز بها إلى اليوم. وتتمثل أهم هذه العناصر في بيت صلاة علي شكل مربع غير منتظم معمدة تحتوي علي 15 مسكبة وسبع بلاطات عريضة. وتمسح بيت الصلاة 1344 مترا مربعا وهي مغطاة بسقوف منبسطة. ويوجد أمام بيت الصلاة صحن بدون أروقة مسيج بجدران مدعمة في الركنين ببرجين وقد اعتمد أساسا علي الحجارة في بناء جامع الزيتونة مع استعمال الطوب في بعض الأماكن.
وتتميز قبة محرابه بزخرفة كامل المساحة الظاهرة في الطوابق الثلاثة بزخارف بالغة في الدقة تعتبر الأنموذج الفريد الموجود من نوعه في العمارة الإسلامية في عصورها الأولي.
ومثلما اختلف المؤرخون حول باني المسجد الجامع, فقد اختلف الرواة حول جذر تسميته, فمنهم من ذكر أن الفاتحين وجدوا في مكان الجامع شجرة زيتون منفردة فاستأنسوا بها وقالوا: إنها لتؤنس هذه الخضراء وأطلقوا علي الجامع الذي بنوه هناك اسم جامع الزيتونة, ومنهم من ذهب إلى نحت شبه أسطورة تقول: إنه لما قدم الفاتحون الأوائل إلى موقع تونس وجدوا كنيسة قديمة تنسب للقديسة زيتونة (سانت أوليف) فأقيم الجامع وورث من موقعها اسمها.
وتذكر رواية أخرى أنه كانت توجد قرب المكان الذي بني فيه المسجد صومعة راهب كان يري نورا يلج من ذلك الموقع فتنبأ بأنه سيكون له شأن فحوطه بالشوك لحفظه وهو المكان الذي وضع فيه المسلمون محراب مسجدهم. وفي هذا السياق ذكر ابن الشماع هذه الرواية قائلا: وسميت تونس لأن المسلمين لما فتحوا افريقية كانوا ينزلون إزاء صومعة ترشيش (اسم تونس القديم) ويتأنسون براهب هناك فيقولون هذه الصومعة تؤنس فلزمها هذا الاسم.
في حين تورد بعض الروايات الأخرى أن الجامع أقيم في مكان اعتاد التونسيون الالتقاء فيه لتبادل السلع أو لمناقشة القضايا التي تشغل بالهم. وفي كل الحالات استمرت تسميته بجامع الزيتونة الي يومنا هذا وإن كان يذكره بعضهم بالجامع الأعظم.
عشرون بابا
وقد ورد وصف هذا الجامع وإبراز مكانته المتميزة والتعبير عن الانبهار بمعماره ودوره الحضاري في عديد كتب التاريخ. فهذا السراج يعجب بتلوين حجارة البناء ووضعها بالاختلاف بعضها إلى جانب بعض وما تحتوي عليه قبة المحراب من نقيشة بخط كوفي تدل علي الأمر ببنائها وتاريخها واسم صانعها.
وتعتبر القبة رائعة من روائع الفن التونسي بل ان جامع الزيتونة يعد متحفا للفنون القديمة فقد تم إحصاء ما لا يقل عن 400 قطعة رومانية وبيزنطية أعيد استعمالها في المعلم وقد أتي بها من أثار قرطاج. فالأقواس والأعمدة وتيجان المرمر المتعددة في الجامع تعود أغلبها إلى العهد الروماني, إلى جانب عدد من البلاطات التي عثر عليها في صحن الجامع الأعظم.
وقد كشفت الحفريات سنة 1989م محرابا, مختفيا وراء المحراب الحالي أكثر ارتفاعا واتساعا ومبنيا بكل إتقان, ولا يشكو من أي خلل مما يؤكد أن المحراب الحالي ليس هو المحراب الأصلي الأغلبي. كما يتمتع جامع الزيتونة بعشرين مدخلا وتفتح كل هذه الأبواب علي الصحن ما عد باب الإمام الذي يفتح علي بيت الصلاة علي يسار المحراب.
ومن العناصر الجمالية التي تبهر زائر جامع الزيتونة المئذنة وفخامتها وارتفاعها الذي يصل إلى ما يقرب من 42 مترا في حين يبلغ عرض قاعدتها 9 أمتار وهي علي أربعة طوابق. ويعد منبرا الجامع من روائع الفن الإسلامي وتحفه الثمينة النادرة.
وثيقة تاريخية نادرة
إن جامع الزيتونة كتاب مفتوح ووثيقة إسلامية وعربية, وثيقة جمالية ومعمارية وتاريخية قائمة الذات.. ألم يقل المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه الورقات: وليس في هذا الأثر الفريد في العالم, تاريخ الديار التونسية في مختلف العصور فحسب, بل فيه أيضا تاريخ الخط العربي ونماذج تطوره مجموعة في أثر واحد.. أما أحمد فكري في كتابة مسجد الزيتونة الجامع في تونس فقد اعتبر أن: هذا المسجد يسجل تاريخه بنفسه أو كتابه في حجارته.. وهو من هذه الناحية أثر فريد في العالم... وهو فوق هذا أثر معماري فائق في إنشائه وتشييده.
أول جامعة إسلامية
لم يكن المعمار وجماليته الاستثناء الوحيد الذي تتمتع به جامع الزيتونة.. بل شكل دوره الحضاري والعلمي الريادة في العالم العربي والإسلامي, إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه وتثبيت مكانته كمركز للتدريس. وقد لعب الجامع دورا طليعيا في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب. وفي رحابه تأسست أول مدرسة بإفريقيا أشاعت روحا علمية صارمة ومنهجا حديثا في تتبع المسائل نقدا وتمحيصا ومن أبرز رموز هذه المدرسة علي بن زياد مؤسسها وأسد بن الفرات والإمام سحنون صاحب المدونة التي تعد من أصول الفقه المالكي.
وكذلك اشتهرت الجامعة الزيتونية في العهد الحفصي بالفقيه المفسر والمحدث محمد بن عرفة التونسي صاحب المصنفات العديدة.
ابن خلدون مر من هنا
وقد تخرج في الزيتونة طوال مسيرتها آلاف العلماء والمصلحين الذين عملوا على إصلاح أمة الإسلام والنهوض بها وتخليصها من أدران التكلس والتحجر والتخلف. إذ لم تكتف جامعة الزيتونة بأن تكون منارة تشع بعلمها وفكرها في العالم وتسهم في مسيرة الإبداع والتقدم وتقوم علي العلم الصحيح والمعرفة الحقة والقيم الإسلامية السمحة, بل بمؤازرة ذلك كانت قاعدة للتحرر والتحرير من خلال إعداد الزعامات الوطنية وترسيخ الوعي بالهوية العربية الإسلامية القادرة علي المشاركة في الحضارات الإنسانية. ففيها تخرج المؤرخ ابن خلدون صاحب المقدمة والعلماء محمد النيفر وسالم بوحاجب والشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير والشيخ محمد الخضر حسن شيخ الأزهر والصحفي اللامع والشيخ محمد العزيز جعيط صاحب إرشاد الأمة ومنهج الأيمة...
لقد تجاوز إشعاع جامعة الزيتونة حدود تونس ليصل إلى سائر الأقطار الإسلامية ولعل المفكر العربي الكبير شكيب أرسلان يوجز دور الزيتونة عندما اعتبره إلى جانب الأزهر والأموي والقرويين أكبر حصن للغة العربية والشريعة الإسلامية في القرون الأخيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق