من أسباب النهضة الأروبية: بيت الحكمة التونسي

وفي الوقت الذي كان تأثير بيت الحكمة القيرواني ينضوي، كانت روحه العلمية تتمادى قدما وتنتشر نحو العدوة الأوروبية، بواسطة أحد الافريقيين المسيحيين وأعني به (قسطنطين المشهور بالافريقي Constantin l'Africain) لولادته بمدينة قرطاحنة، فإنه أخذ العلم بالقيروان عن البقية الباقية من رجال بيت الحكمة ولقن علوم العربية والرياضة وخصوصا الطب والفلك، ثم انتقل إلى مصر ومنها عاد على بلده قرطاجنة – وكانت عندئذ قرية ضئيلة – ومنها قصد ايطاليا واستقر أخيرا بمدينة (سالرنو – Salerno ) واتصل هناك بملك النرمند (Normands) ثم التحق بدير جبل كاسينو الشهير (Monte Cassino) ولم يلبث أن تولى رئاسة هذا الدير وحمل رهبانه على الاشتغال بالعلوم العربية. ورّغبهم في ترجمة مصنفاتها لاسيما ماكان منها في العلوم الرياضية كالطب والهيئة والفلك إلى اللغة اللاطينية، فكان قسطنطين بعمله هذا في مقدمة نقلة تلك العلوم التي انفرد المسلمون عندئذ بأتقانها ومعاناتها والابتكار فيها.

وفي نظرنا أن هذا الحادث العظيم كان من أهم الأسباب لدخول علوم العرب إلى العدوة الأوروبية وانتشارها من هنالك إلى الأصقاع الشمالية خصوصا وقد صادف أن كان ذلك في مبتدأ ظهور النهضة الافرنجية (La renaissance) في العلوم الطبيعية والهيئة وغيرها، وجدير بالملاحظة أن جل ما ترجمه قسطنطين من الكتب العربية إلى اللاطينية أو حاول تقليده والوضع على غراره إنما كان مستمدا من مصنفات أطباء قيروانيين خاصة، مثل تأليف اسحاق بن عمران. واسحاق الاسرائيلي، واحمد بن الجزار كما أنه اعتمد في الفلك وعلم الهيئة على تأليف أبي الحسن على بن أبي الرجال القيرواني، وفي ذلك بلاغ ! ...
ولا يفوتنا أن نستطرد هنا إلى ذكر ذلك العهد العلمي التطبيقي الذي أنشأه الأمير الصنهاجي (علي بن يحي) حفيد المعر بن باديس، فإنه أسس بمدينة المهدية حين تولى إمارتها (سنة 501 هــ - 1108 م) مدرسة للعلوم الكميائية، وأشرف على تسيير التدريس بها حكيم من أشهر حكماء العرب في وقته، وهو الطبيب الفيلسوف الأديب (أمية بن أبي الصلت الداني) وقد ابتنى الأمير لذلك عمارة اسماها (دار العمل) إشارة لما يباشر فيها من تطبيق علم الكيمياء وفروعها، زوّدها بآلات تحليل المعادن والأحجار، وأدوات تقطير الأعشاب والنبات وتبخيرها وتحويلها مما يناسب معلومات ذلك العصر، كما أنه جعل حولها غرفا وفيرة لاسكان الطلبة المعتنين، وتمكينهم من العمل العلمي المجرد، وللأسف الشديد لم يعش هذا المعهد الفريد في بابه أكثر من ربع القرن، فيما رواه نقلة الأخبار.
مما تقدم يتضح للباحث المنصف أن العرب لم يكونوا ليستأثروا بعلومهم، ويضنّوا بنتيجة أبحاثهم واكتشافهم، بل كانوا يلقونها لكل راغب ويلقونها لكل طالب، ولا يهمهم جنسه ومعتقده، وبمثل هذا العمل تتفاضل الأمم، وتتفاخر الشعوب، إذ كانت الرسالة العلمية أمانة يؤديها حاملها إلى البشرية قاطبة، من غير ارتقاب جزاء أو شكور ، وبذلك قضت سنة الكون بين أبناء الخليقة، ليتم العمران، ويسود العرفان، ويعم التواد، والتعاضد بين أفراد الانسان! ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق