يُعتبر الشيخ محمد بيرم الخامس المولود في ربيع سنة 1840 بحاضرة تونس أحد أفراد النخبة الإصلاحية الأولى في تونس، وقد جمعت خير الدين والجنرال حسين والجنرال رستم وثلة من الشيوخ المستنيرين من أمثال محمود قابادو وسالم بوحاجب وأحمد بن خوجة وغيرهم وساعدته ظروف داخلية وخارجية على نحت شخصيته الفكرية والعلمية ثم إنّ أسرته التي اشتهرت بالعلم والجاه والمال سعت إلى تعليمه على أيدي أبرز مشائخ الزيتونة (...).
وقد ذكرت جريدة الحاضرة(1) أسماء مجموعة من أساتذته من شيوخ الزيتونة كشيخ الإسلام الشيخ محمد معاوية والشيخ الطاهر بن عاشور [ الجدّ] والشيخ الشاذلي بن صالح والشيخ محمد الشاهد والشيخ علي العفيف كما كان تلميذا للشيخ محمود قابادو، «ومن أعظم الشباب انقطاعا لخدمة المذهب الذي دعا قابادو إليه» (2). واقترنت سنة ولادته بتأسيس أول مدرسة عصرية بحرص من المشير أحمد باشا الأول وجلب لها ضباطا ومختصين في المعارف الجديدة فضلا عن الترجمة من أروبا، وهي المكتب الحربي، وكان الشيخ بيرم شديد الولع بالإصلاح السياسي ومكبّا على تحصيل العلوم العقلية والنقلية وحريصا على مناكبة العلماء وشغوفا بالتدريس. وقد تولى مشيخة المدرسة العُنقية سنة 1861 وكان يختم بها الحديث النبوي الشريف بحضور الباي. وفي السنة نفسها التحق بسلك المدرسين بالزيتونة وارتقى إلى المرتبة الأولى سنة 1867 التي اقترنت أيضا بظهور كتاب خير الدين «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وكان الشيخ بيرم من أول المهنئين بصدور ذلك الكتاب الحدث وكان من أشد المساعفين لخير الدين عندما صار وزيرا أكبر وفي تعليل ذلك يقول: « لما كنت منه على علم من توغّله في حبّ العدل والميل إلى القوانين والشورى حتى كان أوّل ناشر لمفاخرها لقطرنا بتأليفه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»(3).وانتصر الشيخ بيرم للتحديث والتمدّن وتحمّس كثيرا لعهد الأمان ولدستور 1861 وناصر ثورة على ابن غذاهم وسعى إلى بث الروح العلمية العصرية بتونس ووجد ضالته في ظل وزارة خير الدين فنشر في جريدة الرائد «مقالا بيّـن فيه غلط المنتصرين لمصطفى خزندار الوزير المقال (...). واتفق مع علماء جامع الزيتونة على إقامة احتفالات في الجامع شكرا لله على إنقاذ تونس من عهد الجور والاستبداد وإدخالها في عصر الاطمئنان والرّجوع إلى عهد الأمان (4) وتمكن من الإشراف على جمعية الأوقاف (1874) التي كانت سندا كبيرا للمتعلمين والضّعفاء المعوزين من الأهالي، وساهم في تنظيم التعليم في المدرسة الصادقية وإصدار قانونها بمناسبة بعثها سنة 1875 وله مشاركة في إصلاح التعليم الزيتوني وصدور القانون الخاص به وبالتدريس ومواده كما أنّه سهر على تنظيم المكتبة الصادقية التي تم بعثها بالجامعة الزيتونية، وعمل مع ثلة من الشيوخ لإصلاح المحاكم الشرعية وفي سنة 1875 كلفه خير الدين بإدارة المطبعة الرسمية وجريدة الرّائد ونظارة المطبوعات فاتخذها منبرا للتبشير بالإصلاح والتنوير والحث على تنظيم التعليم والانفتاح على الآخر.كان الشيخ بيرم متفتحا على الثقافات ميّالا إلى اقتباس فضائل الحضارة الغربية وقد زار أوروبا مرارا واطلع ميدانيا على أسلوب النهضة وآلياتها ودرجة نموّها المتفاوت في كثير من الأمصار الأروبية مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وسويسرا والنمسا والمجر وصربيا وبلغاريا واليونان ورومانيا، وحظي في فرنسا وإيطاليا وخصوصا بريطانيا بكثير من الاحترام والتبجيل. وقد حاول في ظل حكومة خير الدين تحقيق نقلة نوعية في الحياة التعليمية والسياسية وأنهك جسمه واستنزف ثروته الطائلة من أجل إرساء دعائم التحديث في البلاد التونسية إلاّ أنّ مكائد حاشية الباي محمد الصادق والمحيطين به وعلى رأسهم مصطفى بن إسماعيل وأيضا مصطفى خزندار نجحوا في إزاحة خير الدين وتشتيت شمل الرعيل الأوّل من المصلحين المؤسسين ولم يكن انتصاب الحماية سنة 1881 بتونس إلاّ تدعيما لمسار التآمر على النهج الإصلاحي التونسي.
كانت الظروف السياسية والاجتماعية بتونس قبيل انتصاب الحماية غير ملائمة لانتصار تيار الإصلاح والتنوير، ولم يثن ذلك كلّه خير الدين والشيخ بيرم ورفاقهما عن مواصلة المجاهرة بضرورة الإصلاح ومواجهة كلّ مظاهر «الاعتساف» كما يقول الشيخ بيرم ويبدو لنا أنّ إقامته باسطانبول ثمّ بالقاهرة ستكون محطة هامة في حياته لأنّها اقترنت بمحاولة إصلاح صارمة جسمها خير الدين عندما أصبح الصدر الأعظم في السلطة العثمانية، ودعّمها الشيخ بيرم بمشروع إصلاحات هامة للباب العالي نال رضى السلطان عبد الحميد الثاني، وقد وسّمه بــ «ملاحظات سياسية عن التنظيمات اللّازمة للدّولة العلية»، ونحسب أنّ الشيخ بيرم نفض يديه من السلطان العثماني فشدّ الرّحال إلى القاهرة من 1885 إلى وفاته أواخر سنة 1889 ويبدو لنا أنّه سعى إلى تغيير طريقته في الإصلاح فعوّل كثيرا على الصحافة مستفيدا من تجربته في تونس من جهة وراهن على التعليم من جهة أخرى، وقد أصدر جريدة الإعلام بانتظام وكانت منبرا للمفكرين والمربين والسياسيين المنددين بالاستعمار وجعل لها مطبعة خولت له طبع بعض كتبه ورسائله ونصوص هامة ونادرة من التراث الفكري التونسي منها رسالة جده محمد بيرم الأول في السياسة الشرعية. والناظر في 269 عددا من جريدة الإعلام يلاحظ الحرص الشديد على رهان المعرفة والتعليم ويبدو لنا أنّ رسالة الكشف الأبهر في الموازنة بين تعليم المدارس والأزهر التي نشرها الشيخ بيرم في جريدته «الاعلام» مشروع تحديثي لطرائق التدريس ولمحتواه بالأزهر. وقد حرص الشيخ بيرم على حث الخديوي توفيق باشا والقائمين على شؤون الأزهر والتعليم بمصر على المراهنة على التعليم بعد أن فشل في تجسيم حلمه التربوي في تونس وتولي تلامذته تحقيق جزء منه لاحقا عندما بعثوا الجمعية الخلدونية وجعلوها محضنة للعلوم العصرية التي نادى بها في هذه الرّسالة وصارت تدرّس لطلبة الزيتونة بالخلدونية منذ مطلع سنة 1897.
إنّ أهم ما يميز هذه الرّسالة شغف صاحبها بالحداثة التربوية والتجديد البيداغوجي وحرصه الشديد على الاستفادة من التجارب الأوروبية ومن المؤلفات الخاصة بالعلوم العصرية، وهو الذي ألحق أبناءه بالمدرسة الصادقية العصرية ومكّن أحد أبنائه من متابعة دراسته العليا في إحدى المدارس المعتبرة في جينيف، كما أنّه حرّر تقريرا مسهبا قدمه إلى صديقه الخديوي توفيق باشا حول التعليم وذهب فيه إلى وجوب انتشاره باللغة العربية لسهولة تناوله بين طبقات الناس (5). وبذلك يكون الشيخ بيرم من أوائل المنادين بتعريب العلوم العصرية وترجمتها وتبسيطها للطلبة ولكلّ المعتنين بالمعارف، وإذا كان الطهطاوي وكذلك الشيخ عبده يدعوان إلى التعليم انطلاقا من «نظرة طبقية»(6) فلا يتمتّع جميع أبناء القطر من المعارف على وجه المساواة فإنّ هذا المصلح التونسي حثّ على تعميم التعليم ونشره بين جميع شرائح المجتمع المصـري. ومن الـلاّفت للنظـر أن مشـروع الشيــخ بيــرم يذكّـرنا بالصـرامـة التي واجـه بهـا ابـن خلـدون - عندما تولى منصبا قضائيا في مصر - الاختلال القضائي فجلب له حزمه كثيرا من العنت وعرّضه إلى العزل ست مرّات، وقد أكّد الشيخ بيرم بمرونة أهميّـة احتضان الأزهر للعلوم العصرية حتى «ينجبر حال التعليم» ومن أهمّها الفنون الرياضية والجغرافية والمساحة والفلك والطب والجبر والكيمياء لأنّها علوم تفضي إلى «تفتيق الأذهان» وتحامل على بعض العلوم والآلات التي حوّّلوها إلى علوم محنطة للفكر معطلة للعقول وغاشية للبصائر مثل العلوم اللغوية وما ارتبط بها من متون وحواشي مبلدة للأذهان. ومن الطريف أنّ الشيخ بيرم يقترح حلولا عملية ودقيقة للقضاء على الفوضى البيدغوجية التي عاينها في كلّ من تونس ومصر فدعا إلى اعتماد ترجمة مبسطة لتلك المعارف، وحثّ المصريين الذين غذّى فيهم الخديوي محمد علي الكبير منذ خمسين سنة(قبل تحرير الرسالة البيرمية) هاجس الانفتاح على العلوم ودعا إلى تأليف الكتب وحض على التأليف المكثف لانتقاء أفضلها وأنفعها وأشدها التصاقا بالروح العلمية وبلغت به الجرأة حدّ اقتراح تدريس بعض العلوم (مثل فروع من الطب والكيمياء العلمية) خارج الأزهر وهو ما تحقّق لاحقا، كما أنّه اقترح تأسيس مدرسة لترجمة تلك العلوم وبيّـن أن ذلك ليس غريبا عن حضارتنا المنتصرة للعلوم العقلية والعصرية انتصارها للعلوم الشرعية التي وطّـأ لها الشيخ بيرم في مقدمة رسالته معتبرا إيّاها من مظاهر الهوية التي لا يجمل التخلي عنها لدى طالب العلم.
وممّا يدل على أهميّة هذه الرسالة التي لم تنل حظها من عناية المؤرخين لإصلاح التعليم بالأزهر ما أورده ابن الشيخ بيرم مصطفى بيرم في دراسته له حول الأزهر وقد شارك بها في مؤتمر علماء اللغات الشرقية المنعقد بمدينة هامبورغ بألمانيا في أوائل شهر سبتمبر 1902 وكان وكيل النائب العمومي بمحكمة مصر المختلطة ومندوب الحكومة المصريّـة في المؤتمر، لقد ذكر أنّ والده كُـلِّفَ بتحرير استفتاء صورته «ما قولكم رضي الله عنكم هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبّر عنها بالكيمياء وغيرها من سائر المعارف لاسيّما ما ينبني عليه منها زيادة القوة في الأمّة بما تجاري به الأمم المعاصرين لها ووجّه ذلك إلى شيخ الأزهر محمد الأنبابي وإلى الشيخ محمد البنّا مفتي الدّيار المصرية فكان جواب الشيخ الأنبابي مُبيحًـا لقراءة تلك العلوم ما لم تنابذ الشرع وأجاب الشيخ البنّـا بأنّ ما سئل عنه الشيخ بيرم موافق لمذهبنا(7) فكان ذلك شهادة ثمينة على رجاحة ما ورد في رسالة الشيخ بيرم أوّلا وما أجمع عليه الأفاضل والعلماء الأزهريون الذين فوضّوا هذا الشيخ التونسي نزيل مصر للحديث على لسانهم ثانيا.
وإلى جانب رسالة الكشف الأبهر، مقال افتتاحي نشره الشيخ بيرم قبل وفاته بسنة (1888) في جريدته الإعلام (بحوادث الأيام ومقتضى المقام بعلوم الإسلام ونصائح الأنام) وقد وسمه بـ «التمدّن» ويبدو لنا أنه عصارة ثقافة الشيخ بيرم وخلاصة ما اقتنع به من أفكار بعد أن جاب كثيرا من بلدان العالم ثمّ استقر بالشرق وتفطّن إلى حظّ التقدم في أقطاره مقارنة مع ما عاينه في أوربا التي زارها خمس مرّات وتختزل لفظه تمدّن الشروط الأساسية والضرورة للثقافة الإسلامية ولشخصية المسلم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الذي طغت عليه مظاهر الاستعمار والهيمنة من جهة، وغلبت على حياة الكثير من الشرقيين سمة التقليد والاستلاب والانسحاق أمام الغير من جهة أخرى.
إنّ التمدّن لا يعني البتّة كما أكّد الشيخ بيرم التنكّر للهوية واحتفار بني الجنس الذي ينتمي إليه أحدنا أو التخلق بأخلاق الغير أو «ادعاء جنس آخر» أو الاشمئزاز من الأسماء العربية والرّغبة في تعويضها بأسماء أعجمية كشربين ببرلين وعزبة البرج ببطرسبرج وبني سويف بجنيف إلخ... وهؤلاء المتنكرون لهويتهم يحتقرون لغتهم ولا حجة لهم على ما يدّعون فيقعون في «غلط فاحش» ويُـفْــرِطُون ويُـفرِّطون وهذا الصنف من «المتمدنين» مقلّد وغير قادر على إنتاج المعرفة ومنبهر، فالواحد من هؤلاء كما لاحظ الشيخ بيرم عندما يغادر ميناء الإسكندرية مثلا يعمد إلى «إلقاء العمامة البيضاء أو الطربوش الأحمر في البحر الأبيض...» ! ولا ريب أنّ المدنيّـة السليمة كما فهمها هذا الشيخ الحنفي التونسي المستنير تدرأ التقليد الأخرق للآخر وتدعو مثلا إلى تقليد الغرب «في إجادة الأعمال وضبط الأحوال والاقتصاد في الأموال والصدق في المقال والمحافظة على آثار الأسلاف والثبات على الجدّ وتقديم منفعة الوطن» وبذلك يرتبط التمدّن ارتباطا وثيقا بالأصالة والاعتزاز بالانتماء الدّيني واللّغوي والحضاري والاعتداد بالوطنية. ولا يعني ذلك في فكر الطلائع المثقفة التونسية التقوقع حول الذات والاحتماء بالحنينية وعشق الماضي وإنّما يرتبط بالانفتاح على الآخر والتواصل معه والاقتباس منه والتعلم منه للاهتداء إلى «الطريق القويم».
إنّ الطرح العقلاني الواعي للتمدن جسّمه هذا النص التونسي المرجعي إلهام في نظرنا وهو ما جعل الشيخ بيرم يتجاوز المحلية لأنّه ربط التمدن بمسيرة الإنسانية نحو مزيد من التقارب والوئام لتجذير عرى التواصل وإشاعة المصلحة ودفع المفسدة وقد تفطن الشيخ بيرم بفكره العولمي إلى اعتبار الناس سكانا لمدينة واحدة حاجتهم إلى الخير لقضاء مآربهم متزايدة: «وما التمدّن في الحقيقة إلاّ فعل كلّ ما من شأنه أن يؤلف بين الناس ليكونوا كسكان مدينة واحدة يهم أحدهم ما يهمّ الجميع ومنفعة الجميع».
المصدر:http://www.vie-culturelle.tn
0 التعليقات:
إرسال تعليق