انظر إلى آبائك و ارفع رأسك فانّك تونسي

ابراهيم الثاني
هو ابراهيم بن احمد بن محمد بن الأغلب، تاسع الأمراء من آل بيته، تولى حكم افريقية من – سنة 261 إلى سنة 689 هـ (874 إلى 902 م) وكان في أول حاله شديد الطلب، مولعا بمصاحبة العلماء الاجلاء، يميل بغريزته إلى العلوم الرياضية ولاسيما في الفلك منها مع اتقانه لعلوم الدين واللغة والأدب، وينشد الشعر الرقيق ، وقد مر بك فيما سلف مشاركته الفعلية في مناظرة فحول العلماء، وتوّطن في صغره جزيرة صقلية مدة وأتقن بها اللغة اللاطينية اتقانا لا بأس به.
وكان ذا شجاعة نادرة واقدام عجيب، وهو الذي أتم فتح مدائن صقلية الخارجة عن المسلمين، وغزا جنوب ايطاليا واستولى على مقاطعتي أكمبرده - (لمبارديا - Lombardia ) – وقلورية (كلابريا Calabria ) ونازل بجيوشه في حملته الجهادية مدينة (كوسنة Cosenza ) وكانت غايته فتح مدينة "رومة – "Romaلولا أن أدركه الأجل في حربه هذه.

وله منشآت جليلة في افريقية منها مدينة (رقّادة) وقد اتخذها دارا لسكناه، وبنى بها القصور والدور والمساجد والصهاريج الضخمة لماء الشراب ولسقي الحدائق الغناء التي تحيط بها، وجلب إليها المياه العذبة في القنوات من مسافة بعيدة، وفي رقّادة استقبل سفارات من ملوك الافرنج الأروبيين، ومن قياصرة القسطنطينية، ومن ملوك السودان في أبّهة عجيبة، وعلا صيته في ممالك البحر المتوسط حتى أن ملوك الافرنج الغربيين (القمامة Comtes ) متى عرضت لهم منازعات مع مخالفيهم من أمراء بلادهم الايطالية كانوا يتوسلون بالأمير إبراهيم لفصل خلافاتهم الداخلية، وقد وقع ذلك بالفعل مرات عديدة.
ومن الأسف الشديد أن تغمر حياة ابراهيم في ثنايا التاريخ ولم يعبأ بها أصحاب الأخبار المحليين كما يجب، مع أنها صحيفة فخر لهذا القطر مدى الدهر، ويكفيه شرفا دائما أن أنشأ جامعة "بيت الحكمة" بإفريقية، فكانت مبعثا جديدا وعاملا قويا لنشر الثقافة الإسلامية في أصقاع المغرب وفي جنوب أروبا.
وإلى القارئ بعض ما وصفه به كبار المؤرخين وفي مقدمتهم أبن الأثير الجزري قال :
"كان ابراهيم عادلا، حازما في أموره، أمّن البلاد، وشرّد أهل البغي والفساد، وكان يجلس للعدل في جامع القيروان يوم الخميس والاثنين، يسمع شكوى الخصوم، ويصبر عليهم، وينصف بينهم، وكانت القوافل والتجار يسيرون في الطرق آمنين، وبني الحصون والمحارس على سواحل البحر، حتى كان يوقد النار من سبتة فيصل الخبر إلى الاسكندرية في الليلة الواحدة..."
"وعزم على الحج فرد المظالم وأظهر الزهد والنسك، وعلم أنه – أن جعل طريقه إلى مكة على مصر منعه صاحبها ابن طولون فتجري بينهما حرب يقتل فيها المسلمون – فجعل طريقه على جزيرة صقلية ليجمع بين الحج والجهاد، ويفتح ما بقي من حصونها، فأخرج ما ادّخره من المال والسلاح وغير ذلك، وسار إلى سوسة فدخلها وعليه فرو مرقع في زي الزهاد – أول سنة 289 هــ - وسار منها في الاسطول إلى صقلية... وسار إلى "طبرمين" (Taormina) فاستعدّ أهلها لقتاله، فلما وصل خرجوا والتقوا، فقرأ القارئ بين يديه : (أنا فتحنا لك فتحا مبينا...) فقال الأمير، اقرأ : (هذان خصمان اختصموا في ربهم...) فقرأ القارئ، فقال ابراهيم : - اللهم ! إني اختصم أنا والكفّار إليك في هذا اليوم "وحمل ومعه أهل البصائر فهزم العدو ودخل معه المسلمون المدينة عنوة".
وتوغل ابراهيم بجيوشه الجرّارة في العدوة الايطالية مؤمّما مدينة رومة، وكان قصده أن يسير منها بعد فتحها إلى القسطنطينية، كما أكّد خبره ابن الأثير وغيره من المؤرخين لكن المقادير أبت ذلك.
قال ابن الأثير : "... وسار إلى كسنتة = Coseza " في أرض قاورية فجاءته الرسل منها يطلبون الأمان : فلم يجبهم، وكان قد ابتدأ به المرض، وهو علة الذرب (الديسانتريا) فنزلت العساكر على المدينة ولم يجدّوا في قتالها لغيبة الأمير عنهم، فإنه نزل منفردا لشدة مرضه، وامتنع منه النوم، وحدث به الفوّاق، فتوفي ليلة السبت لأي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة من سنة 289 هــ (26 أكتوبر 902 م) فجعلوا الأمير ابراهيم في تابوت وحملوه إلى بلرم، ومنها نقيل إلى افريقية ودفن في تربة أجداده بالقيروان رحمه الله..".
وقد أضاف ابن الأثير في ترجمته : "... وكان ابراهيم عاقلا، حسن السيرة، محبّا للخير والإحسان، تصدّق بجميع ما يملك، وأوقف أملاكه جميعها على أوجه البر، وكانت له فطنة عجيبة في إظهار خفايا القضايا.."الخ.



حسن حسني عبد الوهاب
ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية



0 التعليقات:

إرسال تعليق